في المغرب لا تحكي شهرزاد بل تفكّر في "النسق العام" الذي يؤثّر على قضايا التعليم والمرأة، ويزيد هيمنةَ "الرأسمالية"، وينتج "الجهل المقدّس"، و"تكسر أغلال الخوف" لتقولَ كلمتها حتى "تتغيّر أشياء كثيرة"، وتكتب خواطرها شذراتٍ تجمِّعُها في كتاب عنونته بـ"شهرزاد لا تحكي.. شهرزاد تفكّر".
وتدعو الكاتبة نادية عطية شهرزادَ إلى الثورة، وأن تحكي حكايات العنف والظّلام حتى يبزغ فجر جديد لا تكون فيه الضحيّة والقتيلة، ثم تتتبّع حروفها الواثقة، وزلزلَتَها الدنيا كلماتٍ، وكتابتَها الغضبَ والفرح والحب، وصراخَها وغناءها، وكتابتها حتى تجدّد علاقتها مع ما حولها، وقولها لشهريار: "لا تنتظر مني .. أن أعيد تشكيل الحكايات فكلّ ما يجري حولنا يستحقّ أن يكون كل الحكاية"، ودعوتها له أن يتركها لتفكّر، وليفكّر معها، لتخبره بعد ذلك بأنّها ستكتب حكايات تتعدّى الألف لأن كل خبر على شاشة التلفاز حكاية، وكل دمعة على خدّ طفلٍ حكاية.
حكايةُ عطيّة الأولى هي "الرأسمالية التي تهدّد الإنسان" وتريد أن تستعبده، وتراكم الثروات على حسابه، وتقتله وأحلامَه الصغيرة برؤية أبنائه يكبَرون بأمان أمام عينيه، وأن تكون له حياة كريمة وعادلة وهو يتمتّع بنصيبه من جمال هذه الأرض، وتنطلق من دونالد ترامب الرئيس الذي "يبني جدرانا ليحمي الرجل الأبيض من زحف محتمل لرعاع الأرض"، وتراه "الصيغة الأشدّ بؤسا بعد أن خرج رجل المال عن شكليات الديمقراطية العتيدة ليحكم نفسه بنفسه ويحكمَ كل العالَم"، نافية أن يكون معتوها، بل "يعي ما يفعل، ويعي، ربما، ما سيؤول إليه العالَم في المستقبل".
ومن أمريكا إلى فرنسا، تقف "شهرزاد المفكِّرة" عند "طفل المافيات الاقتصادية المدلّل"، الرئيس إيمانويل ماكرون، و"رمز الانغلاق الهويّاتيّ ورفض الآخر"، مارين لوبين، مسائلة ما انتهت إليه "بلاد الأنوار"، وديمقراطيتها، بعد عقود من تقاطب اليسار واليمين: فزّاعة، ووجه أنيق.
ولم تغفل شهرزاد عن مهد الحضارات والديانات التوحيدية الذي ستقوم فيه المذابح حول آبار النّفط، وسيشهد "أبشع جريمة في حقّ الإنسان والأرض" بطرفين أحدهُما "شعب مشرّد لاجئ"، والآخر "قادم من كلّ أطراف الأرض بوعد من الرّب"، كما تنبّهت إلى أن المتحكّمَ الحقيقيَّ في كل الصراعات، ولو كانت حربَ إبادة قادمة باسم إله الإسلام من باكستان ضد إله الهندوس في الهند، هو "إله السوق" الذي يُشعل حروبا بين كلّ الآلهة، تُشرِّدُ الملايين، ويكون ثمنها تدمير الحضارات.
وفكّرت شهرزاد في مناطق توارت عن "التاريخ" في إفريقيا، وشعب "كان يعيش بدائيته في سلام" بتصالح مع الطبيعة، حتى زارته "عصابات متحضّرة جدا، وأنيقة جدا، وتعرف خبايا الأرض ودين الله، وعلّمته كيف يعبده ليربح الجنة، وعلّمته ما غاب عنه من العلوم واللغات"، وسبرت، في الآن نفسه، أغوار خيراته، واستغلّت سواعد رجاله ونسائه، تاركة إياه غير قادر على الانفلات من رياح الشمال.
أجدادنا صحوا ذات صباح ليجدوا عالما قويّا قد تشكّل في غفلة منهم وجاء إلى مشارف بيوتهم، حَسَبَ شهرزاد التي أثارت مفارقات الاستعمار الذي حملَ الأجدادُ السّلاحَ ضدّه، كما حملوه معه، ليخرج ونبقى لحدّ الآن تائهين تابعين، لا نحن نحن، ولا نحن هم، ولا نحن عوانٌ بين ذلك.
وتنتقل "شهرزاد المفكّرة" بين مجموعة من التمظهرات السلبية للرأسمالية، من التسويق كرأسمالٍ يضمنُ هوامشَ الأرباح الكبيرة، ويدفع لاحتقار الشواهد الجامعية التي لا تعين حتى على شراء سيارة، إلى استثمار لوبيات "التأمين" في الخوف، ومعاناة أمّنا الأرض بسببنا، لتجمِل، ولو بشيء من الابتسار، أن عاشق الأرض الذي يخشى عليها من الأخطار لا يمكنه إلا أن يكون يساريا يفكّر في العالم والآخر قبل نفسه، ومتديِّنا زاهدا، ومتصوِفا، ومقاوما لعبودية الاستهلاك، وماركسيا يفكّك خيوط توحّش الرأسمال القائم على "النّهب والاستغلال، وطحن كل ضعيف من الغابات حتى البحار والمقهورين في العالم".
وتنتقد شهرزاد تحوّلَ المغاربة، مع غيرهم، إلى مجرد مستهلكين للبضائع الخارجية، وتحوُّلَ أرضهم إلى مرتعٍ للمصانع الكبرى التابعةِ للشّركات العابرة للقارّات التي تجعل عمّالنا مجرّد يد عاملة رخيصة بأجور زهيدة في حظائرِهِمُ الواسعة، تحت يافطة خطاب برّاقٍ هو: "تشجيع الصادرات".
شهرزاد تكتب أيضا عن فتيات جلُّ أحاديثِهِنَّ عن الجنس والزبائن وعرض الجسد أمام الكاميرات، بلغة بذيئة لا تعرف خجلا، وترى فيهِنَّ تجارة مزدهرة، وواقعا بشعا "نطبّع معه بكلّ حقارة"، وتعبّر عن رفضها، في الآن نفسه، رؤية الشركات وهي تساند مهرجانا ثقافيا أو مؤتمرا فكريّا أو لقاء شعريا، وعدم قَبولِها بأن تحكمَ نشرَ الكتاب والكلمةِ قوانينُ السُّوقِ والرِّبحِ والعرض والطّلب، وتقف عاجزة عن تصوُّرِ أن يكون الربح الماديّ هدف العمل الفكريّ والإبداعي.
شهرزاد المعادية للرأسمالية لا ترى الغول ما جُبِلَت شعوب هذه البقعة من العالم على تخويف أبنائها منه، بل تراه المعلّبات وقِنّينات المشروبات الغازية، وكائنا يتوارى بين الألوان المبهرة والموسيقى الصاخبة للرّسوم المتحرّكة، وتعبِّرُ عن وعيها بكون مروِّجي السِّلَع لا يهمّهم أن تكون في خدمة التقاليد بل أن تكون التقاليد في خدمة السلع.
شهرزاد بعدما أنهت ليلتها الأولى بعد الألف، لم تعد تسكت عن الكلام المباح، بل صارت تجهر بقول إن "مغرب الاستقرار هو منجم ذهب بالنسبة لقلّة قليلة، وقطعةٌ جهنّم بالنّسبة للبقيّة"، وتؤكّد أن المغرب في خطر داخلي بفعل الفساد والنّهب وتهريب المال العام، والفيلات والقصور التي لا يزورها أصحابها إلا نادرا لأن لهم قصورا أخرى من الجهل، وإقحام الدين في السياسة وانتصار الخرافة على العلم.
وتتوالى تعبيرات شهرزاد بعد تفكيرها، فمن وهم نظام التغطية الصحية "راميد"، إلى ضياع المواطنين بين المحامي والمفوَّض وكاتب الضّبط في المحاكم، والبيروقراطية التي تمثّل وجها من أوجه السقوط في الهاوية، مرورا بـ"تكوين جيل الضباع" عبر تجهيل الشعب تجهيلا ممنهَجا ومؤسّسا، وعدم انتباه من استولوا على إرث النساء عندما قرّروا أن تبقى الأراضي في حوزة الذكور إلى أنهم يخالفون شرع الله، مع صراخهم وولْوَلَتِهِم، "ألا تبديل لشرع الله" إذا ما سمعوا بإعادة النّظر في قانون الإرث.
ورغم نفي عنوان المؤلَّف عن شهرزاد فعلَ الحكي، وحصرهِ عملَها في "التفكير"، فإنها تحكي، وتحكي، وتسترسل في سرد حكايات عن "إسلاموية السوق" التي ترى نموذجها في الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي عدّته ابنَ العولمة الذي انفلت بمحاولة بناء اقتصاد تحت ظلالها، وعن معنى العدالة الاجتماعية بمفهومها الجذري الذي لا يرى بديلا عن إعادة النّظر في نظام عام يُنتِج الفوارق واللامساواة وهو ما لا يمكن أن يتحقّق بزكاة موسمية.
وتسكتُ شهرزاد المغربية عن "الكلام غير المباح"، بعد أن تصرخَ بأعلى صوتها أنّ هناك شيئا ما، ربما، ينمو ببطء وبعنف، في قلب كل الدماء السيّالة، والأشجار المقطوعة، والأصوليات المتصارعة، والضياع، والفساد، والقهر، والاستبداد... وهو شيء جديد سينمو لأن "البركان يستحيل أن يبقى خامدا إلى ما لا نهاية".
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire